في روايتهِ "عزلة الحلزون" الصّادرة أخيراً عن دار نوفل (2019) يُتابع الروائيّ السوريّ خليل صويلح مهمّتهُ السردية من خلال طرحِ نصٍّ يوغلُ في أعماق اللغة والتاريخ، وينحتُ عنهما طبقات الزمن، وصولاً إلى وشاحِ الحقيقة السفليّ، نازعاً القناع عن حفنةِ الأكاذيب التي لفّقها التاريخ الشفويّ والذي يسقطهُ الكاتب على تاريخ بطل الرواية ميخائيل جبران، المدققّ اللغويّ في دار نشر للكتب التراثية والمحرّر لموقع الكترونيّ.
يعيش ميخائيل أزمة هوية، تتلخصُ في سؤالٍ لا يفتأ يتردد في داخله: "هل أطعمني جدي قلب ذئب، أم قلبَ طائرٍ يا جدتي؟"، لتظهر أزمة الضياع في لحظةٍ تسقط فيها الهويات الصغرى، يذهب من خلالها البطل إلى تفكيك شجرة عائلتهِ، متسائلاً عن أصول قبيلةٍ لم يستطع تحديد ما إذا كان أفرادها من الهلاليين أم المتصوفة أم هم من قطاع الطرق!
يختلطُ أثناء البحث العائليّ بالديني، والتاريخيّ يالملفّق والمرويّ، فيعيش البطل ضياعاً حقيقياً في مدينةٍ أضاعت وجهها الحقيقيّ، لنراهُ ذاهباً يتقصّى حياة الأسلاف في محاولةٍ لتسخير الوعي لأجلِ اكتشاف الحقيقة مستخدماً كعادته – صويلح – التراث الأدبي الغني، كما لو أنهُ مكتبةٌ تراثية متنقّلة، فتظهر في الرواية أسماء وعناوين، كمثل البلاذريّ وابن الجوزيّ والجاحظ، وصولاً إلى سيرة يوسف العظمة، والتي يّرجّحُ الكاتب احتمال وجود سيرةٍ حقيقة أخرى تختلف عن الحقيقة المعروفة حول القائد الدمشقي النبيل، مركّزاً على كتاب الدّميريّ "حياة الحيوان الكبرى" والذي أوردهُ على سبيل السخرية، واعتبرهُ جدّ العائلة الأكبر قاموساً مقدساً لانتقاء أسماء الأبناء والأحفاد الجدد.
الطفلُ الصغير، القابع داخل بطل الرواية، نشأ شاهداً على غزواتٍ وحروبٍ قبليةٍ، يقتفي القارئ خلفها سلسةً من المجازر والثارات، من جدٍّ فقدَ محاشمهُ إثر اختلائهِ بإحدى نساء قبيلةٍ معادية، إلى جدّ أكبر ينتقي من كتاب الدميريّ أسماءً لأبناء العشيرة، ويمنح تبعاً لأهوائهِ وغاياته ألقاباً تحدد مصائرهم، وتبقى لصيقةً بهم، تمنحهم طبائع حيواناتٍ تتعلق بهم حتى الممات، كمثل الحصيني، الذئب، ابن أوى، وغزالة والسحلية!
يحرصُ "ورّاق الحبّ" عبر نثر سطور عزلتهِ، على السير جنباً إلى جنب في خطّ إنقاذ اللغة من رقودها في مسالخ التاريخ، مسايراً خطّ البحث عن أصول سلالة المدقق اللغوي الذي ينمو في داخله حسّ التمرد ورفض الامتثال لقواعد الرقيب وسلطتهِ، فنجدهُ يُسقِطُ البراءة عن تاريخ عائلةٍ يغتسلُ أفرادها بدم العدوّ وذبحهِ، وسلالةِ أمهاتٍ يسكبنَ طاسات حليب الماعز فوق رماد المواقد إيماناً بخرافاتٍ تحمي أبناءهنّ من تراكم الوحشية والعنف المتجذر في أصل العائلة الملعونة، وتهدئةً لقلوبهنّ التي تعجّ بمصائب القبيلة ومحنِها المتتالية.
يتكشف للبطل أثناء رحلة البحث والتقصي تراث مزيفٌ وتاريخ ملفق أحالَ مؤرّخي اللحظة إلى مزوّريها، فينمو في داخلهِ نقد الأعمال الصحافيةِ التي تعملُ مندفعةً بذوق الببغاء، وعماء رئيسِ تحريرٍ صلف، يتعامل بسفالةٍ مع موظفيه كما لو كانوا جنوداً في ثكنةٍ عسكرية.
"مصائرنا اليوم ... ثمارُ صمتنا حيالَ خطيئةٍ الأمس"
بهذي العبارة التي تُطلقها رهام، الفتاة المترجمة والقادمة إلى دمشق من قرية صدد في ريف مدينة حمص لغاية البحث عن مصير أبٍ مختفٍ قبل أعوامٍ طويلة، هاربةً من قيود الرهبنة والمجتمع المتحفظ، يقع المدقق اللغوي في هواها إثر لقائها حيث يعمل في دار النشر ويكبر ليصير حُبّاً ينام بين خلاياه كمثل ظلٍّ لوحشٍ يأتيه على هيئة قاطع طريق، يمزق أحشاء طمأنينتهِ ويجعله يبدو كما لو أنه في لذةٍ كبرى لن يصحو منها أبداً.
يعبّر الكاتب من خلال قولها ذاك، عن حيوات أولئك الذين ينبتون محاولين ترميم سلالم الحياة، متسائلين عن الغاية الكبرى منها خارجين بإجاباتٍ شبه عبثية تطرح أمام القارئ تساؤلاتٍ كبرى، كمثل الكثير من الأعمال الأدبية الكبيرة التي تدور حول ماهية الحياة، وصورة الجني الذي نجنيهِ جراء صمتنا الطويل حيال التزييف الذي يعشش خالقاً أزماتٍ معيشية ووجودية خانقة.
في "عزلة الحلزون"، نجد مرويةً حكائيةً تمتد من أطراف صحراء لا متناهيةٍ، تخاتل مصائر أبنائها بتقاطعات الحياة الجنونية، ولغة الكاتب الشفيفة حيناً والحادة أحياناً أكثر، تقسو عند استحضار التاريخ العام وتحنو أقلّ عند استحضار الشخصيّ منه، وتنسف تواتر تاريخٍ ملعون خلعه النص على البطل كما خلعهُ على بلاد كل ما فيها يبدو خارجاً من كهوف المردة والعفاريت السفلية.
يذكر أن خليل صويلح هو كاتب وروائي سوري (1959)، يعمل في مجال الصحافة، ألّف رواياتٍ عدة أولها "عين الذئب" عام 2005، ثم تلاها برواية "ورّاق الحب" عام 2002 و"بريد عاجل" ثم "دع عنكَ لومي" عام 2006، ورواية "اختبار الندم" عام 2017 التي نال عنها جائزة الشيخ زايد للكتاب، ونصوص "ضد المكتبة" في العام ذاته.