يحكي الكتاب الذي صدر بعد رحيله عن الهيئة العامة السورية للكتاب، حالة مجتمعنا بين الحداثة وما بعد الحداثة، بمضامين شرح فيها أهمية الحضارة العربية.
فكرٌ تحليليٌ عميق، ميز كاتبه، متناولاً المجتمعات الغربية التي واصلت نشاطها الحضاري، برعاية العلم والعلماء، معلناً ثمرة هذه الرعاية بالتقدم التقاني "التكنولوجي"، الذي أدى إلى انبهار الشعوب العربية وغيرها به.
يعرف الكتاب الحداثة بأنها جملة التغيرات والتطورات التي برزت خلال المئة سنة الفائتة، وذلك في مجالات مختلفة من حياة الشعوب العربية ومنها انتشار التعليم وتطور وسائط النقل والانتقال وتطور وسائل الإعلام وظهور الكثير من المخترعات التي سهلت الحياة اليومية والتقدم المذهل في وسائل الاتصال بين الناس بفضل الهواتف الذكية، حيث بين أن المجتمعات العربية تعرضت للأمور الجديدة كلها، ومن الطبيعي أن تظهر فيها تيارات متضاربة فهناك من يقبل على العلم الجديد متناسياً أساس منطلقاته وهناك من يتحرر من العولمة رافعاً لواء الحفاظ على التراث.
ينطلق المحاسني في كتابه من كون ظاهرة العولمة المعلنة هي عولمة الحضارة فيما مضمونها الحقيقي يقوم على إذابة هوية الشعوب والانتماء القومي، باحتلال اللغة الأم ومن ثم احتلال الوعي بقيمتها وإيهام الشعوب بعدم قدرتها على استيعاب العلوم الحديثة ومصطلحاتها.
في وقت ينظر في شباب اليوم إلى التراث على أنه مجموعة من الكتب القديمة التي ما زال بعضها مخطوطاً وهي تضم مؤلفات الأوائل في مجالات اللغة والحديث والفتاوى، وقد كان بعضها يضم في طياته أبحاثاً في علوم مختلفة كالكيمياء والفلك والطب وجميعها قد تجاوزها الزمن.
مقابل نظرة المحاسني إلى الأبحاث العلمية على أنها الأساس لانطلاقة البحث العلمي الأوروبي فيما بعد، الذي انتهى في أيامنا إلى علم متطور خلاق بفعل دأب الحضارة الغربية على صب مجهوداتها في سبر أغوار ذلك التراث والتدقيق في معطياته.
لتبدو ثقافة الانفتاح والتغيير غير قابلة لفكرة التعارض مع مقومات ذاتيتنا الثقافية، وفي طليعتها لغتنا التي هي عنوان أصالتنا وإن ابتعادنا عن لغتنا هو قطع لجذورنا واقتلاع لمجتمعنا وانسياق في ركب الاغتراب والاضمحلال، مرحباً بالحداثة الخادمة لطموحاتنا في إيجاد مجتمع عصري متمكن من ذاتيته المبنية على تراثه الأصيل وهي مفتاح لفهم العالم سريع التطور ومرقاة لاستثمار طاقاتنا في المشاركة لبناء عالم الغد.
واليوم، لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن الثقافة العربية كائن اجتماعي احتفظ بهويته المتفردة في الأمة العربية على مر العصور برأي المحاسني، ومن هنا بدت ثقتنا بصلابة مجتمعنا الأساس في نظرتنا إلى المستقبل، فهو المجتمع الذي تخطى هجمات عديدة في الماضي وما زالت منطلقاته الثقافية والحضارية صامدة برغم وجود ما يشوبها من ممارسات يومية عند بعض الأفراد، لافتاً إلى ضرورة أن نبقى متسلحين بقيمنا وثوابتنا في أي مواجهة مع الثقافات الأخرى عن طريق حوار مفتوح لا يمكن إلا أن يزيدنا تمسكاً بأصالتنا.
يشار إلى أن العلامة الدكتور مروان المحاسني كان رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق ورحل عن عالمنا في شهر آذار عام 2022 بعد مسيرة علمية حافلة بالفكر والمعرفة عن عمر 96 عاماً قضاها في خدمة اللغة العربية.
المصدر: وكالة سانا